عِلم المعجَمة عند العَرب - د.محمد أحمَد قاسم
يرتكز وضع المعجم إلى دعامتين رئيستين هما:
أ-علم المعجمات أو ما يسمى بـ Lexiclogie ويبحث في البنية الدلالية للفظ.
ب-علم صناعة المعجمات أو ما يسمى بـ Lexicogaphie ويبحث في أنواع المعجمات ومكوناتها وطرق إعدادها.
والمعجمة فن أو حرفة، أو هي باختصار علم صناعة المعجم، بكل ما يتصل بهذه الصناعة من مهارات لغوية، وأصول أخذ اللغة بأصواتها ودلالاتها من أفواه العرب الأقحاح، أو مدونات موثوقة وأسانيد صحيحة تبعد عنها شبه الوضع والتزيّد.
ولا بد في البداية من تعريف المعجم قاموسياً واصطلاحياً.
أولاً: المعنى القاموسي للمعجم:
جاء في لسان العرب لأبن منظور:
"العَجْمُ: النقط بالسواد مثل التاء عليها نقطتان. يقال: أعجمت الحرف ولا يقال عجمت... وقال ابن جني: أعجمت الكتاب: أزلت استعجامه...
والعجْمُ: عضّ شديد بالأضراس دون الثنايا. وعَجَمَ الشيء يعجُمُه عجماً:
عضه ليعلم صلابته من خوره... والعَجْمُ: الرّوزُ".
فالأعجام إذا إزالة اللبس والغموض، وطريق إلى الإبانة لأن وضع النقاط على الحروف هو في نهاية المطاف وضع للأمور في نصابها الصحيح، وقضاء على الخلط بين المعاني، ونأي عن التصحف والتحريف.
والمعجم اختبار لصلابة اللفظ، ومعرفة مدى فصاحته أو بعده من الفصاحة فيعرف به خور اللفظ وفصاحته. ولقد نال الحجاج يوماً متوعداً أهل الكوفة : "أن أمير المؤمنين نثر كنانته ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً، وأشدها مكسراً، فوجهني إليكم، ورماكم بي". فعَجْمُ العود امتحان لصلابته والبحث عن لفظ في المعجم لصلابة معناه أو هشاشته. والمعجم يروز اللفظ ليُعرف مدى صلابته وفصاحته.
ثانياً: المعنى الاصطلاحي للمعجم:
جاء في المعجم الوسيط : "المعجم ديوان لمفردات اللغة، مرتب على حروف المعجم، جمعه معجمات ومعاجم". ورأى د. حجازي أن هذا المصطلح يطلق "على الكتاب المرجعي الذي يضم كلمات اللغة ويثبت هجاءها، ونطقها، ودلالتها، واستخدامها، ومرادفاتها، واشتقاقها، أو أحد هذه الجوانب على الأقل".
ثالثاً: متى ظهر هذا المصطلح؟
أهملت معاجمنا تاريخ الألفاظ ولم تشكل سيرة اللفظ هماً عند المعجميين. لهذا ذهب المحدثون في تحديد ميلاد هذا اللفظ شتى. فقال د. العطار: "ولا نعلم بالدقة متى أطلق المعجم على هذا الاستعمال، ولكن معجم الذي نعلمه أن أول من استعمل الكلمة رجال الحديث، وأول ما عرف كان في القرن الثالث... وأول كتاب أطلق عليه اسم المعجم هو "معجم الصحابة لأبي محدّث الجزيرة (ت 307ه). ولقد ترجم أبو يَعلى لشيوخه على حروف الهجاء.
ويرى د. السامرائي أن لفظ المعجم لم يشق طريقه إلى النور إلا في أواخر القرن الرابع الهجري، أما قبل ذلك فهو كتاب. وأول معجم بهذا الاسم هو معجم مقاييس اللغة". ورأى د. حجازي أن اللفظ كان يطلق على كتب الطبقات المرئية على حروف المعجم، فصار يطلق على كتاب الكلمات المرتبة على حروف المعجم.
وما ذهب إليه د. السامرائي لا يخالف رأي العطار خصوصاً في انتقال الدلالة.
رابعاً: مصطلح القاموس:
أطلق على المعجم تسمية أخرى هي القاموس. والقاموس لغة "قعر البحر، وقيل وسطه ومعظمه". فهل أطلق هذا اللفظ على المعجم لأنه الذي يجمع شتات الكلم حتى تتلاطم فيه المفردات كما تتلاطم الأمواج في البحر الهادر؟
وجاء الفيروز أبادي (ت 817 ه) فسمى معجمه "القاموس المحيط" معللاً التسمية بقوله :
(وأسميته القاموس المحيط لأنه البحر الأعظم". والناس قديماً وحديثاً يطلقون على العالم باللغة، المتمكن من شواردها، المذلل لمعاصها، القابض على نواصيها صفة البحر. وقد صار لفظ القاموس مرادفاً للفظ المعجم، بعدما كان علماً على القاموس المحيط، وهو في زمننا أكثر شيوعاً (وسيرورة) من لفظ المعجم.
خامساً: العرب أسبق الأمم إلى وضع المعجم:
أنكر بعض المتحاملين عرباً كانوا أم أعاجم على العرب فضيلة السبق على ميدان المعجم، وذهبوا إلى أن العرب مقلدون غير مبتكرين. وقد كتب د. أحمد مختار عمر مقالاً في مجلة مجمع اللغة بالقاهرة تحت عنوان: "هل أثر الهنود في المعجم العربي؟" أثبتت فيه آراء عدد من الباحثين في هذا الموضوع، فانقسمت بين مرجح ومثبت
أما المرجحون فعلى رأسهم مقال في دائرة العارف الإسلامية بنصها الفرنسي بعنوان الخليل بن أحمد جاء فيه:
Il n’est pas classé dans l’ordre alphabétique, mais probablement sous l’influence de l’Inde…
فكاتب المقال يثبت أن الخليل واضع أول معجم عربي، ويؤكد نسبة كتاب "العين" إلى الخليل، ويكتفي بالإشارة إلى احتمال تأثره بالهنود لأنه مرتب ترتيباً صوتياً. وهذا الترتيب معروف عند الهنود.
وأعجمي آخر هو المستشرق الإنكليزي جون هاي وود يشير إلى احتمالين فيقول :
"ربما كان اليونان هم الذين أعطوا العرب فكرة المعجم. وكان الهنود هم الذين أعطوهم الأبجدية الصوتية: وبعض الأفكار المعجمية الأخرى". وهكذا نرى أن الشك في أصالة المعجم العربي عائد إلى اعتماد الأبجدية الصوتية التي اهتدى إليها الخليل وهو العالم الموسيقي الرياضي.
أما بعض العرب فكانوا متطرفين في إثبات التقليد: وذهبوا إلى أن الخليل مقلد غير مبتكر. وعلى رأس هؤلاء نذكر د. شوقي ضيف الذي قال ): "فقد وضع الخليل خطة أول معجم في العربية وهو معجم العين، ورتبه على مخارج الحروف بالضبط كما يرتب الهنود حروف لغتهم".
والغريب أن المستشرق هاي وود يؤكد أن معاجم الهنود لم تظهر إلا في القرن الثاني عشر، وهو وقت العرب فيه قد انتجوا بعض معاجمهم العظيمة. وأفضل ما في هذا المقال : "الحقيقة أن العرب في مجال المعجم يحتلون مكان المركز سواء في الزمان أو المكان بالنسبة إلى العالم القديم والحديث وبالنسبة إلى الشرق والغرب".
وهذه خلاصة ترسي قواعد الحق، وتعطي الفضل أصحابه، وتثبت أن العرب أسبق الأمم إلى وضع المعجم. وقد أكد هذه الأصالة . وقد أكد هذه الأصالة د. العطار بقوله : "وإ1ذا كان الخليل مسبوقاً من بعض الأمم في هذا السبيل، فإن من الحق أن نذكر أنه لم يكن مقلداً أحداً، أو ناهجاً على طريق سابق، بل كان مبتكراً أو مخترعاً في الفكرة والمنهج والترتيب..."
سادساً: مدارس المعجمات العربية:
وضع الخليل أول معجم عربي مؤسساً فيه المدرسة المعجمية الأولى. وكانت لمدرسته مبادئ وأصول خاصة وتلامذة حذوا حذوه.
ومدارس المعجمات في نظر الباحثين أربع عند العرب.
1-مدرسة الخليل(ت 175ه):
كانت العناية قبلها منصرفة إلى الرسائل والمجموعات التي وضعها الأصمعي (ت216ه) وأبو زيد الأنصاري (ت 215 ه) وغيرها. مهّدت هذه الرسائل إلى المعجم ولم تكن معاجم لاختلافها عنها في الهدف والمنهج. وبقي معجم العين أول معجم حاول حصر ألفاظ اللغة حصراً شاملاً في إطار نظام منهجي واضح استوعب فيه شوارد اللغة.
وأهم مبادئ هذه المدرسة:
-ترتيب المواد ترتيباً صوتياً بحسب مخارج الحروف بتأثير من علم الموسيقى.
-تقسيم المعجم إلى كتب، وتفريغ الكتب إلى أبواب بحسب الأبنية، وحشد الكلمات في الأبواب.
-تقليب الكلمة إلى مختلف الصيغ وفق نظام الاشتقاق الكبير، ورصد المستعمل والمهمل من هذه التقليبات.
واستمر هذا النهج في معجم البارع للقالي (ت 356 ه) وتهذيب اللغة للأزهري (ت 370 ه)، والمحيط للصاحب بن عباد (ت 385 ه)، والمحكم الأعظم لابن سيده (ت 458ه).
2-مدرسة أبي عبيد القاسم بن سلاّم (ت 224ه):
حملت هذه المدرسة اسم أبي عبيدة لأن كتابه (الغريب المصنف) أول كتاب وصل إلينا مصنفاً على طريقة الموضوعات ويضم ثلاثين باباً. وقامت هذه المدرسة على بناء المعجم على المعاني والموضوعات، ورتبت فيها الثروة اللغوية في مجموعات من الألفاظ تندرج تحت فكرة واحدة. من أهم أتباعها:
أ-كراع النمل (ت حوالي 310ه) في المُنَجَّد في ما اتفق لفظه واختلف معناه وقسمه إلى أبواب هي:
1-في ذكر أعضاء البدن من الرأس إلى القدم.
2-في ذكر الحيوان من الناس والسباع والبهائم والهوام.
3-في ذكر الطير.
4-في ذكر السلاح.
5-في ذكر السماء وما يليها.
6-في ذكر الأرض وما يليها وفيه ثمانية وعشرون فصلاً على عدد حروف المعجم.
ب-الهمذاني عبد الرحمن بن عيسى (320ه)، في كتابه (الألفاظ الكتابية).
وقد وزع موضوعاته على أبواب كثيرة، تفاوتت طولاً وقصراً، هادفاً إلى إثبات العبارة الفنية، وانتخاب التعبير الجميل لإمداد الكتاب بزاد من الفصاحة وحسن العبارة.
فخالف بذلك طريقة المعجم لأن المعجم يرمي إلى الجمع والاستقصاء لا إلى الانتخاب والانتقاء.
ج-الثعالبي (ت 429) في كتابه (فقه اللغة وسر العربية). هو أشهر معجمات المعاني، وزه على ثلاثين باباً، في كل باب عدد من الفصول. بدأ الباب الأول بالكليات وفصله الأول في ما نطق به القرآن من ذلك، وفصله الثاني في ذكر ضروب من الحيوان، وفصله الثالث في النبات والشجر وهكذا... فبلغت فصول الكتاب ستمائة فصل. وقد نقل بعض فصوله عن المتقدمين.
د-ابن سيده (ت 458 ه) في معجمه (المخصص). هو أكبر معجمات المعاني.
من فضائله: تقديم الأعم فالأعم على الأخص فالأخص، والأتيان بالكليات قبل الجزئيات والابتداء بالجوهر والتفقيه بالأعراض على ما يستحقه من التقديم والتأخير، وتقديمنا (كم) على (كيف) وشدة المحافظة على التقييد والتحليل). قسمه إلى عدد من الكتب منها: كتاب خلق الإنسان، ويتضمن باب الحمل والولادة، والرضاع والفطام والغذاء، وسائر ضروب التربية والغذاء، وأسماء أول ولد الرجل وآخرهم وأسماء ولد الرجل في الشباب والكبر وهكذا...
والكتاب على نفاسته لا يخلو من عيوب، أهمها: اختلاط الموضوعات، وإقحامه مسائل لغوية ونحوية وصرفية وما إليها..
وجهت إلى هذه المدرسة انتقادات شتى، هب بعضهم إلى أن سلبياتها تفوق إيجابياتها.
ولكن الإنصاف يقضي بالاعتراف لها بأنها تسد حاجة من حاجات المنشيء، وتسهل عليه التعمق في موضوعه، وتمده بسرعة بالألفاظ الصحيحة والمعاني الدقيقة. فالباحث عن صوت من أصوات الحيوان مثلاً في معجم المعاني قد لا يعثر عليه إلا بشق الأنفس أما في معجم الموضوعات فإنه يعثر عليه بسرعة فائقة. وقل مثل ذلك في درجات الحزن ومراتب البكاء والفرح والسعادة وما إلى ذلك.
3-مدرسة الجوهري (ت 400 ه) (في معجمه الصحاح):
رتبت المعجم ترتيباً هجائياً، وقسمته إلى فصول وأبواب معتمدة الحرف الأخير من الكلمة وسمته باباً، وسمت الحرف الأول فصلاً، ونظرت إلى الحرف الثاني في الثلاثي وإلى الحرف الثالث في الرباعي ليأتي الترتيب دقيقاً. وهذا الترتيب أسهل بكثير من ترتيب الخليل.
من أبرز أتباعها:
أ-ابن منظور (ت711ه) في "لسان العرب":
واللسان أشهر معاجم العرب إلى يومنا هذا وأكثرها تشعباً وأغزرها مادة. فلقد احتوى ثمانين ألف مادة. وعُد موسوعة لغوية أدبية شاملة.
اعتمد فيه الفصل والباب على طريقة الجوهري. لكن دار المعارف بمصر قد أعادت توزيعه في طبعة جديدة معتمدة الطريقة الألفبائية الحديثة وأصدرته في ستة مجلدات.
ولهذا المعجم أهمية كبرى في لغتنا، فهو منذ صدروه وإلى زماننا هذا يُعد أهم معجم عند الدارسين العرب والأعاجم. وأبرز د. محمد سالم الجرح مكانته بقوله : "وظهور مثل هذا المعجم الموسوعي الشامل، الدقيق الترتيب، الجامع لصنوف البحث اللغوي المتعلقة بكل لفظ قد جعل للغة العربية مكانة فريدة بين سائر اللغات في ميدان النشاط المعجمي. فقد ظلت اللغة العربية منفردة بمثل هذا المعجم الضخم بين لغات الإنسان جميعاً في القديم والحديث حتى القرن التاسع عشر حين بدأ يظهر على رفوف المكتبات في أوروبا معاجم لبعض اللغات الأوروبية كالإنكليزية والألمانية تضارع لسان العرب في الإحاطة والاتساع".
ب-الفيروزابادي (ت 817 ه) في القاموس المحيط:
رتبه على الفصل والباب واستخدم فيه الرموز لأول مرة. احتوى ستين ألف مادة وبقي حجمه أصغر من لسان العرب، ونافسه في الشهرة والذيوع إلى يومنا هذا.
ج-الزبيدي (ت 1205 ه) في تاج العروس:
اعتمد فيه مادة القاموس المحيط، ووسعها، وأثبت الشواهد التي أهملها القاموس المحيط. وصنفه على الباب والفصل كما في الصحاح. وصدّر كل باب بكلمة موجزة تحدث فيها عن الحرف وبيَّن مخرجه وصفاته وابدالاته. ووجه عناية خاصة إلى المجاز ولكنه أورد فيه الكثير من الألفاظ العامية المصرية خاصة.
لم تخط هذه المدرسة بالتصنيف المعجمي خطوة نوعية، فهي وأن كانت أسهل من طريقة الخليل إلا أنها لا تخلو من صعوبات ولم تسلم من تهكم بعض الدارسين، فالأستاذ عبد الحق فاضل ذكرها بقوله : "آثر القدماء من العرب ترتيب معاجمهم بحسب الحروف الأخيرة من الكلمات، وفي ذلك ما فيه للشعراء في تصيّد القوافي الشوارد، وإزعاج لسائر الخلق في إيجاد الكلمات التي يبغون البحث عنها في المعجم"
يرتكز وضع المعجم إلى دعامتين رئيستين هما:
أ-علم المعجمات أو ما يسمى بـ Lexiclogie ويبحث في البنية الدلالية للفظ.
ب-علم صناعة المعجمات أو ما يسمى بـ Lexicogaphie ويبحث في أنواع المعجمات ومكوناتها وطرق إعدادها.
والمعجمة فن أو حرفة، أو هي باختصار علم صناعة المعجم، بكل ما يتصل بهذه الصناعة من مهارات لغوية، وأصول أخذ اللغة بأصواتها ودلالاتها من أفواه العرب الأقحاح، أو مدونات موثوقة وأسانيد صحيحة تبعد عنها شبه الوضع والتزيّد.
ولا بد في البداية من تعريف المعجم قاموسياً واصطلاحياً.
أولاً: المعنى القاموسي للمعجم:
جاء في لسان العرب لأبن منظور:
"العَجْمُ: النقط بالسواد مثل التاء عليها نقطتان. يقال: أعجمت الحرف ولا يقال عجمت... وقال ابن جني: أعجمت الكتاب: أزلت استعجامه...
والعجْمُ: عضّ شديد بالأضراس دون الثنايا. وعَجَمَ الشيء يعجُمُه عجماً:
عضه ليعلم صلابته من خوره... والعَجْمُ: الرّوزُ".
فالأعجام إذا إزالة اللبس والغموض، وطريق إلى الإبانة لأن وضع النقاط على الحروف هو في نهاية المطاف وضع للأمور في نصابها الصحيح، وقضاء على الخلط بين المعاني، ونأي عن التصحف والتحريف.
والمعجم اختبار لصلابة اللفظ، ومعرفة مدى فصاحته أو بعده من الفصاحة فيعرف به خور اللفظ وفصاحته. ولقد نال الحجاج يوماً متوعداً أهل الكوفة : "أن أمير المؤمنين نثر كنانته ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً، وأشدها مكسراً، فوجهني إليكم، ورماكم بي". فعَجْمُ العود امتحان لصلابته والبحث عن لفظ في المعجم لصلابة معناه أو هشاشته. والمعجم يروز اللفظ ليُعرف مدى صلابته وفصاحته.
ثانياً: المعنى الاصطلاحي للمعجم:
جاء في المعجم الوسيط : "المعجم ديوان لمفردات اللغة، مرتب على حروف المعجم، جمعه معجمات ومعاجم". ورأى د. حجازي أن هذا المصطلح يطلق "على الكتاب المرجعي الذي يضم كلمات اللغة ويثبت هجاءها، ونطقها، ودلالتها، واستخدامها، ومرادفاتها، واشتقاقها، أو أحد هذه الجوانب على الأقل".
ثالثاً: متى ظهر هذا المصطلح؟
أهملت معاجمنا تاريخ الألفاظ ولم تشكل سيرة اللفظ هماً عند المعجميين. لهذا ذهب المحدثون في تحديد ميلاد هذا اللفظ شتى. فقال د. العطار: "ولا نعلم بالدقة متى أطلق المعجم على هذا الاستعمال، ولكن معجم الذي نعلمه أن أول من استعمل الكلمة رجال الحديث، وأول ما عرف كان في القرن الثالث... وأول كتاب أطلق عليه اسم المعجم هو "معجم الصحابة لأبي محدّث الجزيرة (ت 307ه). ولقد ترجم أبو يَعلى لشيوخه على حروف الهجاء.
ويرى د. السامرائي أن لفظ المعجم لم يشق طريقه إلى النور إلا في أواخر القرن الرابع الهجري، أما قبل ذلك فهو كتاب. وأول معجم بهذا الاسم هو معجم مقاييس اللغة". ورأى د. حجازي أن اللفظ كان يطلق على كتب الطبقات المرئية على حروف المعجم، فصار يطلق على كتاب الكلمات المرتبة على حروف المعجم.
وما ذهب إليه د. السامرائي لا يخالف رأي العطار خصوصاً في انتقال الدلالة.
رابعاً: مصطلح القاموس:
أطلق على المعجم تسمية أخرى هي القاموس. والقاموس لغة "قعر البحر، وقيل وسطه ومعظمه". فهل أطلق هذا اللفظ على المعجم لأنه الذي يجمع شتات الكلم حتى تتلاطم فيه المفردات كما تتلاطم الأمواج في البحر الهادر؟
وجاء الفيروز أبادي (ت 817 ه) فسمى معجمه "القاموس المحيط" معللاً التسمية بقوله :
(وأسميته القاموس المحيط لأنه البحر الأعظم". والناس قديماً وحديثاً يطلقون على العالم باللغة، المتمكن من شواردها، المذلل لمعاصها، القابض على نواصيها صفة البحر. وقد صار لفظ القاموس مرادفاً للفظ المعجم، بعدما كان علماً على القاموس المحيط، وهو في زمننا أكثر شيوعاً (وسيرورة) من لفظ المعجم.
خامساً: العرب أسبق الأمم إلى وضع المعجم:
أنكر بعض المتحاملين عرباً كانوا أم أعاجم على العرب فضيلة السبق على ميدان المعجم، وذهبوا إلى أن العرب مقلدون غير مبتكرين. وقد كتب د. أحمد مختار عمر مقالاً في مجلة مجمع اللغة بالقاهرة تحت عنوان: "هل أثر الهنود في المعجم العربي؟" أثبتت فيه آراء عدد من الباحثين في هذا الموضوع، فانقسمت بين مرجح ومثبت
أما المرجحون فعلى رأسهم مقال في دائرة العارف الإسلامية بنصها الفرنسي بعنوان الخليل بن أحمد جاء فيه:
Il n’est pas classé dans l’ordre alphabétique, mais probablement sous l’influence de l’Inde…
فكاتب المقال يثبت أن الخليل واضع أول معجم عربي، ويؤكد نسبة كتاب "العين" إلى الخليل، ويكتفي بالإشارة إلى احتمال تأثره بالهنود لأنه مرتب ترتيباً صوتياً. وهذا الترتيب معروف عند الهنود.
وأعجمي آخر هو المستشرق الإنكليزي جون هاي وود يشير إلى احتمالين فيقول :
"ربما كان اليونان هم الذين أعطوا العرب فكرة المعجم. وكان الهنود هم الذين أعطوهم الأبجدية الصوتية: وبعض الأفكار المعجمية الأخرى". وهكذا نرى أن الشك في أصالة المعجم العربي عائد إلى اعتماد الأبجدية الصوتية التي اهتدى إليها الخليل وهو العالم الموسيقي الرياضي.
أما بعض العرب فكانوا متطرفين في إثبات التقليد: وذهبوا إلى أن الخليل مقلد غير مبتكر. وعلى رأس هؤلاء نذكر د. شوقي ضيف الذي قال ): "فقد وضع الخليل خطة أول معجم في العربية وهو معجم العين، ورتبه على مخارج الحروف بالضبط كما يرتب الهنود حروف لغتهم".
والغريب أن المستشرق هاي وود يؤكد أن معاجم الهنود لم تظهر إلا في القرن الثاني عشر، وهو وقت العرب فيه قد انتجوا بعض معاجمهم العظيمة. وأفضل ما في هذا المقال : "الحقيقة أن العرب في مجال المعجم يحتلون مكان المركز سواء في الزمان أو المكان بالنسبة إلى العالم القديم والحديث وبالنسبة إلى الشرق والغرب".
وهذه خلاصة ترسي قواعد الحق، وتعطي الفضل أصحابه، وتثبت أن العرب أسبق الأمم إلى وضع المعجم. وقد أكد هذه الأصالة . وقد أكد هذه الأصالة د. العطار بقوله : "وإ1ذا كان الخليل مسبوقاً من بعض الأمم في هذا السبيل، فإن من الحق أن نذكر أنه لم يكن مقلداً أحداً، أو ناهجاً على طريق سابق، بل كان مبتكراً أو مخترعاً في الفكرة والمنهج والترتيب..."
سادساً: مدارس المعجمات العربية:
وضع الخليل أول معجم عربي مؤسساً فيه المدرسة المعجمية الأولى. وكانت لمدرسته مبادئ وأصول خاصة وتلامذة حذوا حذوه.
ومدارس المعجمات في نظر الباحثين أربع عند العرب.
1-مدرسة الخليل(ت 175ه):
كانت العناية قبلها منصرفة إلى الرسائل والمجموعات التي وضعها الأصمعي (ت216ه) وأبو زيد الأنصاري (ت 215 ه) وغيرها. مهّدت هذه الرسائل إلى المعجم ولم تكن معاجم لاختلافها عنها في الهدف والمنهج. وبقي معجم العين أول معجم حاول حصر ألفاظ اللغة حصراً شاملاً في إطار نظام منهجي واضح استوعب فيه شوارد اللغة.
وأهم مبادئ هذه المدرسة:
-ترتيب المواد ترتيباً صوتياً بحسب مخارج الحروف بتأثير من علم الموسيقى.
-تقسيم المعجم إلى كتب، وتفريغ الكتب إلى أبواب بحسب الأبنية، وحشد الكلمات في الأبواب.
-تقليب الكلمة إلى مختلف الصيغ وفق نظام الاشتقاق الكبير، ورصد المستعمل والمهمل من هذه التقليبات.
واستمر هذا النهج في معجم البارع للقالي (ت 356 ه) وتهذيب اللغة للأزهري (ت 370 ه)، والمحيط للصاحب بن عباد (ت 385 ه)، والمحكم الأعظم لابن سيده (ت 458ه).
2-مدرسة أبي عبيد القاسم بن سلاّم (ت 224ه):
حملت هذه المدرسة اسم أبي عبيدة لأن كتابه (الغريب المصنف) أول كتاب وصل إلينا مصنفاً على طريقة الموضوعات ويضم ثلاثين باباً. وقامت هذه المدرسة على بناء المعجم على المعاني والموضوعات، ورتبت فيها الثروة اللغوية في مجموعات من الألفاظ تندرج تحت فكرة واحدة. من أهم أتباعها:
أ-كراع النمل (ت حوالي 310ه) في المُنَجَّد في ما اتفق لفظه واختلف معناه وقسمه إلى أبواب هي:
1-في ذكر أعضاء البدن من الرأس إلى القدم.
2-في ذكر الحيوان من الناس والسباع والبهائم والهوام.
3-في ذكر الطير.
4-في ذكر السلاح.
5-في ذكر السماء وما يليها.
6-في ذكر الأرض وما يليها وفيه ثمانية وعشرون فصلاً على عدد حروف المعجم.
ب-الهمذاني عبد الرحمن بن عيسى (320ه)، في كتابه (الألفاظ الكتابية).
وقد وزع موضوعاته على أبواب كثيرة، تفاوتت طولاً وقصراً، هادفاً إلى إثبات العبارة الفنية، وانتخاب التعبير الجميل لإمداد الكتاب بزاد من الفصاحة وحسن العبارة.
فخالف بذلك طريقة المعجم لأن المعجم يرمي إلى الجمع والاستقصاء لا إلى الانتخاب والانتقاء.
ج-الثعالبي (ت 429) في كتابه (فقه اللغة وسر العربية). هو أشهر معجمات المعاني، وزه على ثلاثين باباً، في كل باب عدد من الفصول. بدأ الباب الأول بالكليات وفصله الأول في ما نطق به القرآن من ذلك، وفصله الثاني في ذكر ضروب من الحيوان، وفصله الثالث في النبات والشجر وهكذا... فبلغت فصول الكتاب ستمائة فصل. وقد نقل بعض فصوله عن المتقدمين.
د-ابن سيده (ت 458 ه) في معجمه (المخصص). هو أكبر معجمات المعاني.
من فضائله: تقديم الأعم فالأعم على الأخص فالأخص، والأتيان بالكليات قبل الجزئيات والابتداء بالجوهر والتفقيه بالأعراض على ما يستحقه من التقديم والتأخير، وتقديمنا (كم) على (كيف) وشدة المحافظة على التقييد والتحليل). قسمه إلى عدد من الكتب منها: كتاب خلق الإنسان، ويتضمن باب الحمل والولادة، والرضاع والفطام والغذاء، وسائر ضروب التربية والغذاء، وأسماء أول ولد الرجل وآخرهم وأسماء ولد الرجل في الشباب والكبر وهكذا...
والكتاب على نفاسته لا يخلو من عيوب، أهمها: اختلاط الموضوعات، وإقحامه مسائل لغوية ونحوية وصرفية وما إليها..
وجهت إلى هذه المدرسة انتقادات شتى، هب بعضهم إلى أن سلبياتها تفوق إيجابياتها.
ولكن الإنصاف يقضي بالاعتراف لها بأنها تسد حاجة من حاجات المنشيء، وتسهل عليه التعمق في موضوعه، وتمده بسرعة بالألفاظ الصحيحة والمعاني الدقيقة. فالباحث عن صوت من أصوات الحيوان مثلاً في معجم المعاني قد لا يعثر عليه إلا بشق الأنفس أما في معجم الموضوعات فإنه يعثر عليه بسرعة فائقة. وقل مثل ذلك في درجات الحزن ومراتب البكاء والفرح والسعادة وما إلى ذلك.
3-مدرسة الجوهري (ت 400 ه) (في معجمه الصحاح):
رتبت المعجم ترتيباً هجائياً، وقسمته إلى فصول وأبواب معتمدة الحرف الأخير من الكلمة وسمته باباً، وسمت الحرف الأول فصلاً، ونظرت إلى الحرف الثاني في الثلاثي وإلى الحرف الثالث في الرباعي ليأتي الترتيب دقيقاً. وهذا الترتيب أسهل بكثير من ترتيب الخليل.
من أبرز أتباعها:
أ-ابن منظور (ت711ه) في "لسان العرب":
واللسان أشهر معاجم العرب إلى يومنا هذا وأكثرها تشعباً وأغزرها مادة. فلقد احتوى ثمانين ألف مادة. وعُد موسوعة لغوية أدبية شاملة.
اعتمد فيه الفصل والباب على طريقة الجوهري. لكن دار المعارف بمصر قد أعادت توزيعه في طبعة جديدة معتمدة الطريقة الألفبائية الحديثة وأصدرته في ستة مجلدات.
ولهذا المعجم أهمية كبرى في لغتنا، فهو منذ صدروه وإلى زماننا هذا يُعد أهم معجم عند الدارسين العرب والأعاجم. وأبرز د. محمد سالم الجرح مكانته بقوله : "وظهور مثل هذا المعجم الموسوعي الشامل، الدقيق الترتيب، الجامع لصنوف البحث اللغوي المتعلقة بكل لفظ قد جعل للغة العربية مكانة فريدة بين سائر اللغات في ميدان النشاط المعجمي. فقد ظلت اللغة العربية منفردة بمثل هذا المعجم الضخم بين لغات الإنسان جميعاً في القديم والحديث حتى القرن التاسع عشر حين بدأ يظهر على رفوف المكتبات في أوروبا معاجم لبعض اللغات الأوروبية كالإنكليزية والألمانية تضارع لسان العرب في الإحاطة والاتساع".
ب-الفيروزابادي (ت 817 ه) في القاموس المحيط:
رتبه على الفصل والباب واستخدم فيه الرموز لأول مرة. احتوى ستين ألف مادة وبقي حجمه أصغر من لسان العرب، ونافسه في الشهرة والذيوع إلى يومنا هذا.
ج-الزبيدي (ت 1205 ه) في تاج العروس:
اعتمد فيه مادة القاموس المحيط، ووسعها، وأثبت الشواهد التي أهملها القاموس المحيط. وصنفه على الباب والفصل كما في الصحاح. وصدّر كل باب بكلمة موجزة تحدث فيها عن الحرف وبيَّن مخرجه وصفاته وابدالاته. ووجه عناية خاصة إلى المجاز ولكنه أورد فيه الكثير من الألفاظ العامية المصرية خاصة.
لم تخط هذه المدرسة بالتصنيف المعجمي خطوة نوعية، فهي وأن كانت أسهل من طريقة الخليل إلا أنها لا تخلو من صعوبات ولم تسلم من تهكم بعض الدارسين، فالأستاذ عبد الحق فاضل ذكرها بقوله : "آثر القدماء من العرب ترتيب معاجمهم بحسب الحروف الأخيرة من الكلمات، وفي ذلك ما فيه للشعراء في تصيّد القوافي الشوارد، وإزعاج لسائر الخلق في إيجاد الكلمات التي يبغون البحث عنها في المعجم"